الاخبار: كريم حداد
في 17 كانون الثاني 2007، وقّع لبنان وقبرص اتفاقاً أولياً لترسيم حدودهما البحرية. لكن هذا الاتفاق، الذي لم يُصادق عليه من البرلمان اللبناني، اعتمد الخط المتوسط (Equidistance Line) كأساس للتقسيم، من دون مراعاة ما يُعرف في الفقه الدولي بـ«الظروف الخاصة» أو «الاعتبارات الإنصافية». والنتيجة أنّ الخط المرسوم أعطى قبرص امتداداً بحريّاً واسعاً على حساب الجرف القاري اللبناني، الذي يمتدّ طبيعيّاً نحو الغرب والشمال الغربي.
بكلمة أخرى، اعتمد الاتفاق مقاربة هندسية باردة تجاه واقع سياسي وجغرافي مركّب. ومع تطوّر الاجتهادات الدولية، بات واضحاً أنّ الخط المتوسط ليس قاعدة إلزامية، بل مجرد نقطة انطلاق يمكن تعديلها لتحقيق حلٍّ منصف كما تنص عليه المادتان 74 و83، من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982 (UNCLOS).
الإنصاف في القانون الدولي للبحار
القانون الدولي، لا ينظر إلى البحر كمساحة هندسية خاضعة للمسافات فحسب، بل كامتداد طبيعي للجغرافيا والسيادة. ولهذا السبب، أكّدت محكمة العدل الدولية، منذ قضية الجرف القاري بين ألمانيا والدنمارك وهولندا (1969)، أنّ الترسيم يجب أن يكون «منصفاً» لا «آليّاً»، وأنّ الخطوط الهندسية يجب أن تخضع لتعديل متى أفرزت نتائج غير عادلة.
ومن هذه السابقة وُلد ما يُعرف اليوم بـ المنهج الثلاثي الإنصافي (Three-Stage Equitable Method)، الذي تتبعه المحاكم الدولية في ترسيم الحدود البحرية.
ويقوم على ثلاث مراحل:
1. رسم خطّ وسط مبدئي لأغراض تقنية.
2. تعديل الخطّ بما يتلاءم مع «الظروف الخاصة» الجغرافية والسياسية.
3. اختبار التناسب بين طول السواحل والمساحة البحرية الناتجة، للتّحقّق من العدالة.
وقد رسّخت هذه المقاربة في قضايا لاحقة مثل ليبيا/مالطا (1985)، بنغلادش/ميانمار (2012)، ونيكاراغوا/كولومبيا (2012)، حيث أقرّت المحكمة بأنّ الجزر لا تُمنح وزناً كاملاً إذا أدّى ذلك إلى اختلال العدالة، وأنّ التناسب الجغرافي معيار أساسي للحلّ المنصف.
لا تتمتّع حكومة نيقوسيا، بسيادة تامة على كل الجزيرة، ولا على كامل الشواطئ فيها، كما أنّ اتفاقها مع إسرائيل شكّل مسّاً واضحاً بحقوق لبنان
ثم إنّ الجرف القاري اللبناني، يمتدّ بانتظام طبيعي نحو الغرب حتى عمق يزيد على ألفي متر، بينما ينحدر الجرف القبرصي بسرعة حادّة جنوباً. هذا الامتداد الطبيعي يجعل من لبنان دولة قارية، ذات حقّ جيولوجي ثابت، في المساحات البحرية التي تقع ضمن هذا الامتداد.
وقد أكّدت محكمة العدل الدولية، في قضية «North Sea Continental Shelf»، أنّ الدولة «تملك حقّا ًطبيعيّاً في الامتداد الجيولوجي لقارّتها»، وأنّ هذا الحقّ لا يمكن أن يُختزل بخطّ هندسي متساوٍ بين سواحل متباينة الطبيعة.
لذلك، فإنّ التمسّك اللبناني بمبدأ الامتداد الطبيعي للجرف القاري، يوفّر أساساً علميّاً وقانونيّاً قويّاً، لإعادة النظر في الخطّ المعتمد عام 2007.
قبرص: سيادة منقوصة
من أبرز النقاط التي تهمّشها القراءة التقنية للاتفاق أنّ جمهورية قبرص، لا تمارس سيادتها الكاملة على أراضيها، وأنها تضمّ على ساحلها الجنوبي قاعدتين بريطانيتين ذواتي سيادة مستقلّة هما أكروتيري (Akrotiri) وذكيليا (Dhekelia). ، هاتان القاعدتان، تعدّان بموجب معاهدة استقلال قبرص عام 1960، أراضي بريطانية ذات سيادة كاملة، وبالتالي لا يجوز احتساب سواحلهما كنقاط أساس في أي ترسيم بين لبنان وقبرص.
تؤيّد ذلك قضية التحكيم بين إريتريا واليمن (1999)، التي استبعدت فيها المحكمة الجُزر غير الخاضعة لسيادة فعليّة من الحساب الجغرافي في الترسيم.
إضافة إلى ذلك، لا تسيطر الحكومة القبرصية إلا على نحو ثلثي الجزيرة، فيما تُدار المنطقة الشمالية من قبل «جمهورية شمال قبرص التركية»، المعترف بها فقط من تركيا. هذا الواقع يجعل قبرص، دولة منقوصة السيادة، ويُضعف قانونيّاً أهليّتها لعقد اتفاقات بحريّة شاملة مع أطراف ثالثة.
وفي سابقة الكاميرون/نيجيريا (2002)، قضت المحكمة بأنّ الدولة التي لا تمارس السيادة الفعلية على كامل إقليمها، لا يجوز أن تُنشئ حدوداً بحريّة ملزمة للغير انطلاقاً من مناطق لا تسيطر عليها فعلياً.
بالتالي، فإنّ أي ترسيم يستند إلى خطوط أساسية تشمل القاعدتين البريطانيتين أو المناطق غير الخاضعة للسيطرة القبرصية الفعلية، هو ترسيم فاقد للشرعية الدولية.
قبرص وإسرائيل والمسّ بحقوق لبنان
عام 2010، وقّعت قبرص اتفاقاً مع إسرائيل، لتحديد منطقتهما الاقتصادية الخالصة. غير أنّ هذا الاتفاق تجاوز النقطة اللبنانية رقم (1)، وهو ما يشكّل انتهاكاً صريحاً للمادتين 74 و83، من اتفاقية قانون البحار، اللتين تمنعان الدول من اتخاذ تدابير تمسّ بحقوق طرف ثالث، قبل اكتمال الترسيم النهائي.
وبالتالي، يُعدّ الاتفاق غير ملزم للبنان، استناداً إلى مبدأ «pacta tertiis nec nocent nec prosunt» أي أنّ الاتفاقات لا تُلزم ولا تضرّ الأطراف غير الموقّعة عليها.
هذا البند يمنح لبنان أساساً قانونياً للاعتراض على أي نشاط تنقيب أو استثمار في المنطقة المتنازع عليها بين النقطة 1 والنقطة 23، سواء من قبل قبرص، أو الشركات الأجنبية المتعاقدة معها.
بناءً على ما تقدّم، يحقّ للبنان أن يطالب بإعادة ترسيم حدوده البحريّة مع قبرص، على أساس مبدأ الإنصاف الموسّع (Extended Equity Principle) الذي يجمع بين القانون الدولي والحق الجيولوجي والاعتبارات السياسية الواقعية.
ويتضمّن ذلك استبعاد القاعدتين البريطانيتين من الخطّ الساحلي القبرصي المعتمد في الحساب الهندسي، و تخفيض الوزن القانوني لقبرص، كجزيرة صغيرة ذات سيادة منقوصة. ثم اعتماد الجرف القاري الطبيعي للبنان، كعامل جوهري في تحديد الامتداد الاقتصادي. إضافة إلى إعادة تحديد نقطة الانطلاق الجنوبية (النقطة 1) بما يضمن تلاقيها الصحيح مع الحدود اللبنانية–الإسرائيلية، المعترف بها دوليّاً. واعتماد مبدأ التناسب بين طول السواحل والمساحات البحريّة، بحيث لا تحصل قبرص، على امتداد يعادل أو يفوق الساحل اللبناني القاري.
أبعاد اقتصادية وسياسية
إنّ إعادة الترسيم لا تقتصر على المساحة البحريّة فحسب، بل تتعلّق أيضاً بمستقبل الثروات الطبيعية في شرق المتوسط. فحقول الغاز الواقعة قرب «البلوك 12 القبرصي»، تمسّ امتداداً جيولوجيّاً واحداً مع الحوض اللبناني. أي أنّ تصحيح الخطّ ليس مطالبة رمزية بل ضرورة اقتصادية استراتيجية، لحماية موارد لبنان، من الاستغلال غير المشروع.
من جهة أخرى، يواجه اتفاق 2007، وضعاً سياسيّاً معقّداً بسبب الخلاف التركي–القبرصي المستمر، ما يجعل أي ترسيم ثنائي بين بيروت ونيقوسيا، قابلًا للطعن أمام هيئات التحكيم الدولية. وبالتالي، فإنّ المصلحة اللبنانية تقتضي التريّث في التصديق على أي اتفاق جديد قبل ضمان توافر أساس إنصافي وقانوني متكامل.
ولكي يحافظ لبنان على حقوقه، ينبغي أن يتبنّى خطاباً قانونياً متماسكاً، يرتكز إلى مبدأ الإنصاف والظروف الخاصة، وهو المبدأ الأعلى في فقه القانون الدولي للبحار. والامتداد الطبيعي للجرف القاري اللبناني، كدليل جيولوجي على الحق التاريخي والطبيعي. كذلك استبعاد الأراضي ذات السيادة الأجنبية أو المنقوصة من الحساب، أي استبعاد القاعدتين البريطانيتين والمناطق القبرصية غير الخاضعة لسلطة نيقوسيا.
بهذا المعنى، لا يطالب لبنان، بأكثر من حقّه الطبيعي، بل يسعى إلى تطبيق ما أقرّه القانون الدولي نفسه: أنّ العدالة لا تتحقّق بالتساوي الهندسي، بل بتوازن الحقوق الفعلية والسيادة الواقعية.
ما سبق يقودنا الى خلاصة، بأنّ ترسيم الحدود البحريّة، ليس نزاعاً تقنياً بين خبراء المساحة، بل قضية سيادية بامتياز تمسّ الثروات الوطنية وحقوق الأجيال المقبلة. ومن واجب لبنان، أن يفاوض من موقع قانوني صلب، مستنداً إلى مبادئ الإنصاف والتناسب والامتداد الطبيعي، لا إلى خطوط رسمت على الخرائط بغياب توازن القوى.
مبدأ الإنصاف في القانون الدولي للبحار، يمنح لبنان الأساس القانوني والواقعي لإعادة ترسيم حدوده البحريّة مع قبرص، بطريقة أكثر عدالة، عبر استبعاد تأثير القاعدتين البريطانيتين، ومراعاة الانقسام السياسي في الجزيرة، وتثبيت الامتداد الطبيعي لجرفه القاري. هذه الأسس، إن طُبّقت بدقّة، ستعيد للبنان موقعه السيادي الكامل في شرق المتوسط، وستضمن له حقّه في موارده البحرية من دون تجاوز أو انتقاص.

